تفكير العقل وتفكير القلب
أن التفكير لدينا يعتمد بشكل كبير على اللغة , وكان البعض يرى أنه لا يمكن التفكير دون لغة , وأن الحيوانات تتصرف غريزياً ودون تفكير . ولكن ظهر أن غالبية الكائنات الحية تفكر وتتصرف بناءً على معالجة فكرية لما تتعرض له من ظروف ومؤثرات حسية , وبناءً على ما تعلمته أثناء حياتها .
هناك سؤال هام :هل هناك فرق جوهري بين تفكيرنا وتفكير باقي الكائنات الحية ؟؟
غالبية الناس ترى , أو يشعرون , أن لدينا شكلين من التفكير ( وفي رايي هذا صحيح ) . الأول تفكير العقل , والثاني تفكير القلب .
والتفكير الأول وهو التفكير الواعي الإرادي المنطقي السببي , وهو تفكير تسلسلي . ففي حالة اللغة المحكية أو المكتوبة وفي حالات النقاش والجدل , وكذلك في حالات ذكر الحوادث والقصص يكون التفكير تسلسلي . وأيضاً في حالة التفكير المنطقي والتفكير السببي والرياضيات يكون التفكير تسلسلي . وفي حالة كافة أشكال التعلم في المدارس والجامعات يستعمل التفكير التسلسلي بشكل أساسي .
أما التفكيرالثاني فهو تفكير حدسي وغير واع وشامل , مثل الألهام والوحي والإبداع في الشعر والموسيقة والعلوم , وهو التفكير المتوازي . وألمشي والسباحة وركوب الدراجة , وكافة المهارات الجسمية والمعرفية كإلقاء الخطب والدروس المكتسبة بالتعلم تمارس بالتفكير المتوازي بشكل أساسي , مع توجيه وقيادة الفكير التسلسلي .
أن تعلم كافة الحيوانات التصرفات والمهارات مثل تعلم الصيد من أبويها أو رفاقها , يتم بستخدام التفكير المتوازي , فهي تتعلم دفعة واحدة لكثير من الأمور , وليس خطوة خطوة , فهي لا تفكر بشكل تسلسلي مثلنا لأنها لا تستخدم لغة متطورة تجبرها على التفكير التسلسلى .
دور وأهمية اللغة :
منذ حوالي 300 ألف سنة بدأت اللغة لدينا نحن البشر بالتكوّن باختراع الكلمات , وتطورت لتصبح كما هي عليه الآن , خلال 150 ألف سنة . كانت أهمية اختراع الكلمات في التواصل تتمثل في ابتكار أصوات محددة معينة أوضح وأدق من الإيماءات يتم تعليمها للصغار بسهولة . لقد سهلت اللغة عملية نقل الأفكار المتزايدة التعقيد .
والأهمية الكبرى لللغة والتي كانت العامل الأساسي في تطور الذكاء البشري بشكل جعل تفكيره ومعالجة المعلومات المدخلة لدماغه مختلفة ومميز عن باقي الكائنات الحية , حتى التي دماغها أكبر بكثير من دماغه , هي أنها سمحت لكافة مركز الاستقبال الحسية أكانت سمعية أم بصرية أم شمية . . الخ تستطيع الترابط مع بعضها بواسطة اللغة التي استطاعت تمثيل الكثير من تأثيرات المدخلات الحسية برموز صوتية لغوية , وذلك عن طريق مناطق الارتباط الغوية في الدماغ , وهذه المناطق التي تشكلت واتسعت بشكل كبير هي الأساس الذي حقق لنا الذكاء المتميز عن كافة الكائنات الحية . فنحن الوحيدين من بين الكائنات الحية الذين نستطيع تمثيل غالبية الأحاسيس بواسطة رموز لغوية فكرية وهي الكلمات .
لقد تطورت كثيراً طرق وأساليب الترميز والتمثيل لدينا نتيجة نشوء اللغة المحكية , فبواسطة اللغة التي هي ترميز ثاني للرموز الحسية الخام ( البصرية والصوتية وغيرها ) تم تمثيل أو ترميز واردات الحواس المختلفة بلغة أو رموز واحدة . فبواسطة اللغة المحكية ( أي الصوتية ) أو المقروءة , تم ترميز الكثير من واردات الحواس المختلفة , وأيضا تم تمثيل أحاسيسنا وعواطفنا وأفكارنا بتلك اللغة . وكان يحدث تدقيق وتصحيح لتلك التمثيلات أو التشبيهات أو النماذج التي يبنيها دماغنا كي يكون التمثيل أدق وأكثر مطابقة للواقع . فاختراع الكلمات وسع حدود العقل والوعي .
ولم يبدأ التواصل بين مناطق الذكاء لغوياً إلا منذ حولي 150 ألف سنة , وأخذت المعلومات عن مختلف جوانب الحياة تمثل بكلمات يتم التواصل بها بين الأدمغة . وتطورت طريقة ربط الأفكار وهذا أدى لنمو الذكاء البشري بشكل كبير وسريع وغير مسبوق . فبواسطة اللغة المحكية بدأت القصص والروايات ومن ثم الأساطير بالتشكل والتداول بين أفراد الجماعة , وهذا سمح مع أمور أخرى بنشوء وتكوّن الثقافة الخاصة بكل جماعة ,والتي صار يتم توارثها وتناميها نتيجة الحياة والتواصل الاجتماعي عن طريق هذه اللغة المحكية , وفي هذه المرحلة تم حدوث القفزة الكبيرة للتفكير والذكاء البشري التي ميزته عن باقي الكائنات الحية .
وقد كانت اللغة المحكية تستلزم التواصل المباشر بين البشر ليتم تناقل وتوصيل المعارف والأفكار , لذلك عندما تشكلت اللغة المكتوبة , وهذا كان منذ وقت قريب حوالي 6500 سنة وهي بداية التاريخ المكتوب , تمت قفزة أخرى سمحت بتناقل المعلومات والأفكار دون التواصل المباشر , وبالتالي تركمها نتيجة توضعها أو تخزينها خارج الدماغ برموز وإشارات مادية تحفظها لفترات طويلة , وبذلك نشأ التاريخ نتيجة التواصل بين البشر الذي حدث نتيجة اللغة المكتوبة التي سمحت بانتقال الأفكار والمعلومات خلال الأجيال المتعاقبة .
"" وفي رأيي إن أهمية اللغة ليس فقط أنها سهلت التواصل وسمحت بتمثيل وترميز غالبة الأشياء والأفعال , بل هناك أمرآخر هام جداً , وهو أنها جعلتنا نفكر ونعالج الأفكار بشكل مختلف عن باقي الكائنات الحية , فنحن أصبحنا نفكر بشكل تسلسلي واعي سببي , ومنطقي . ""
فبناء اللغة واستعمالها يعتمد التفكير السببي المنطقي التسلسلي . فهناك الإسم والفعل والصفات والحالات . . , لتمثيل وترميز الأشياء ومجريات الأمور , وكذلك يستخدم الفعل والفاعل والمفعول لتمثيل السببي والمنطقي , لتسسل الحوادث وتطوها والتنبؤ لها , وهذا من أهم ما ميز طريقة تفكيرنا عن باقي الكائنات الحية , والدور الأساسي والأهم الذي جعل تفكيرنا مختلف ومميز عن باقي الكائنات الحية .
ويمكن إظهار مقدار وأهمية الموروث الفكري الاجتماعي , إذا جعلنا مولود بشري يعيش بطريقة تعزله عن كافة التأثيرات الاجتماعي , وتوفير مستلزمات الحياة والبقاء له ( لأنه يستحيل عيشه دون مساعدة كأن ترعاه حيوانات أخرى ويعيش في مجتمعها ) وجعله يعتمد على الموروث البيولوجي فقط ودون الموروث الاجتماعي البشري , في تعامله مع ظروف الحياة . عندها نلاحظ الخصائص فكرية وتقنية التي سوف يخسرها , إنه قبل كل شيء سوف يخسر اللغة وبذلك يخسر كل ما تمنحة اللغة من ميزات فكرية عن باقي الكائنات الحية , وأهمها التفكير التسلسلي , ويصبح يفكر تفكير متوازي شامل كبقية الكائنات الحية , وهذا سوف يجعله شبيه بباقي الكائنات الحية المتطورة ولن يتفوق عليها إلى قليلاُ هذا إذا تفوق .
المعالجة التسلسلية والمعالجة التفرعية أو المتوازية للأفكار .
نحن فقد من بين كافة الكائنات الحية نعتمد التفكير الإرادي ومعالجة الأفكار بطريقة تسلسلية نتيجة التفكير بوجود اللغة , وبالإضافة للطريقة التفرعية التي تفكر بها غالبية الكائنات الحية . والذي يقوم بعملية المعالجة المتوازية للمدخلات الحسية هو الدماغ القديم الزواحفي والدماغ الحوفي , وكان يقوما بذلك قبل نشوء الدماغ الحديث بما فيه اللحاء . لقد كان الدماغ الزواحفي يقوم بمعالجة مجموعة مدخلات في نفس الوقت أي بالتوازي, وليس واحد بعد الآخر, فقد كان لهذا الدماغ القدرة على معالجة كافة المدخلات في نفس الوقت . فالدماغ في أول نشأته كانت مهمته معالجة كافة المدخلات الحسية في نفس الوقت أي بالتوازي , والمثيرات الأقوى والأهم هي التي تقرر الاستجابة , وذلك بعد مقارنة كافة المثيرات الداخلة للمعالجة مع بعضها في نفس الوقت . ثم بعد ذلك صارت بعض المدخلات تأخذ أهمية ليس لقوتها أو تأثيرها الحاضر ولكن لتأثيرها المستقبلي الهام , وهذا حدث نتيجة تشكل آليات الإشراط أو ترابط المثيرات مع بعضها نتيجة التجاور المكاني أو الزماني أو معانيها ( أي التعلم ) .
أن أهمّ خاصية للمعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا والتي تميزنا عن باقي الكائنات الحية , والتي تشكلت نتيجة استعمالنا للغة محكية وتعتمد السببية والمنطق , هي التركيزه على سلسلة مسار حوادث واحد للتفكير فيه ومعالجته من ضمن المدخلات الكثير , فمن المفيد تجنب تشتيت الانتباه عند ملاحظة المثيرات الجديدة , والتركيز على تحديد الهام منها لمعالجته هو فقط والتغاضي عن البقية , والاستمرار في ذلك المسار حتى نصل إلى نتيجة أو يحدث مثير جديد وهام يستدعي قطع المعالجة الجارية والالتفات لمعالجة هذا الجديد . فالتفكير السببي والمنطقي والرياضي يعتمدوا المعالجة بالتسلسل , لذلك هم مقيدين ومحدودين بسلسلة واحدة من الأفكار .
إن المعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا تكون معالجة بالتسلسلة , وفي نفس الوقت تجري لدينا معالجة بالتوازي في الدماغ الزواحفي والدماغ الحوفي وتكون غير واعية , ويتم إرسال نتائج هذه المعالجة إلى سبورة الوعي , فالدماغ الحوفي ينظم دخول المثيرات والأفكار بعد أن يعالجها بالتوازي إلى سبورة الوعي , فتشارك في تحديد الاستجابة . فالشيء المهم أن المقارنة اللازمة لإجراء القياس والحكم يلزمها معالجة بالتوازي , فلكي تتم مقارنة مجموعة مدخلات أو مؤثرات أو أفكار مع بعضها البعض يجب إدخالها معاً لمعالجتها دفعة واحدة , لذلك نجد الدماغنا يستخدم المعالجة التسلسلية والمعالجة المتوازية في نفس الوقت .
إن الواقع هو ناتج تفاعل كمية شبه لا متناهية من العناصر وتتفاعل بآليات متعددة الأسباب . وهنا يكمن ( ضعف أو قوة ) التفكير الإرادي الواعي الذي يعتمد تسلسل الأفكار مقارنة بالتفكير الحدسي الذي يعتمد التفكير المتوازي للأفكار في نفس الوقت , لأنه يعتمد سلسلة واحدة من الأفكار . ولكن من أهم ميزات التفكير التسلسلي دقته العالية ووضوحه ( لأنه واعي ) أكثر من التفكير المتوازي الحدسي .
ونحن نجد المخيخ مثال على التفكير الامتوازي , فهو أقدر بنية دماغية على المعالجة المتوازية , فهو يستطيع معالجة الكثير من أعقد الأوضاع الحركية دفعة واحدة اي في نفس الوقت مثل المشي مع المحافظة على التوازن أو ركوب دراجة . . , وتتم هذه المعالجة غالباً دون تدخل الوعي , وعندما يتدخل الوعي تنخفض قدرات المخيخ ويصبح المخيخ يعالج مسار واحد من حركات الجسم وعندها يصعب تنفيذ الحركات المتزامنة في نفس الوقت ويختل نظام أداء العمل .
إن المعالجة الفكرية التسلسلية تعتمد التسلسل زمني . قصص و روايات و سير , والتسلسل سببي أي الأسباب والنتائج والترابطات السببية أو المنطقية , الرياضيات والهندسة , الفرض – الطلب - البرهان كمثال . وعمل دماغنا يعتمد على المشاركة بين التفكير التسلسلي والتفكير التفرعي أو المتوازي وهو يظهر على شكل حدس وإلهام , لإدارة وتنظيم كافة أمور حياتنا . وهناك اختلافات بيننا من ناحية اعتمادنا عل التفكير التسلسلي أو التفكير التفرعي , فبعضنا يركز على التفكير التسلسلي , وعادة يكون متفوق بالرياضيات والمنطق , والبعض الآخر يركز على التفكير التفرعي وعادة يكون متفوق بالشعر والأدب والموسيقى والرسم ومخيلة خصبة .